الأحد، 12 مايو 2019

الكاردينال البطريرك مار نصرالله صفير


الكاردينال البطريرك مار نصرالله صفير
ظاهرة شخصية متكاملة – وعمقٌ في الاستراتيجية دينيا ووطنيًا

ميشال مرقص

هو في شموخ الكبارِ وضِعةِ الأطفالِ. سديدُ الرأي صلبُ الموقف بتودّدٍ. يقولُ كلمته ويمشي. لا ينحدرُ في مستوى الطلب، صاحبُ إباءٍ ورِفعةٍ ندَرَتا. قويُّ العزمِ مهادنٌ وشديدُ المراسِ على حقٍّ.
عرفتُه وأنا دونَ العشرين. كان نائبًا بطريركيّا عامًّا في خمسينات القرن الماضي، وقضاء البترونِ منها – حيثُ قريتي- وكان في زياراته الراعوية للأبرشية ينزلُ عند عَمَّيْ والدي الكاهنين، وتُتاحُ لي فرصةٌ للتقرّب والسلام، والإصغاء إلى كلامه...
قبل ستين عامًا، كان المطران يزور رعايا الأبرشية في مناسباتٍ نادرة. معه بدأت الزيارات تتعدّد. يتحدثون عن خصاله بالحسنى، ويذاعُ صيتُه ويحلُّ في القلوب. كان المطران نصرالله صفير صاحب وجهٍ متألّقٍ وابتسامة مشرقة جاذبة، وعلى عُمقِ تفكيره يبدو ببساطةٍ كلّية وهو يتحدّثُ إلى الناس. وكانتْ لعظاتِهِ نكهةٌ جاذبة.
عندما رُقّيَ إلى سُدّةِ البطريركية على أنطاكية وسائر المشرق للطائفة المارونية، عام 1986 تبدّلَ مسارُ المقرِّ البطريركي. فصاحبُ الغبطة أنذرَ في خطابه الأول إثرَ انتخابه بأنّه رغم سجيّتهِ الليّنة سيكون الأصلبُ مكسرًا، ويُدافعُ عن قناعاتِه وهي تمثّلت بما لا يقبلُ الالتباس في القناعات السياديّة للوطن الذي كانَ ينوءُ بثقلِ الاقتتالات الداخلية والحروب الخارجية والمطامع الحدودية، فسعى ونبّه وأصدرَ بيانات وأبلغ رؤساء دولٍ ورؤساء أديان وسفراء وسياسيين وأحزابًا ومستفسرين، بأنّه لن يُفتَّ عضدٌ له.
لا يُناورُ ولا يمالئ، ولم يكن ليحملَ ضيمًا لولا أنْ آذته سلوكياتٌ. فكانَ عند قناعته بالامتناع عن زيارة بلدٍ يحتلُّ وطنه ويتدخل في شؤونه، على رغمِ أنّه لم يُقاطع أفرقاء وأحزابًا وسياسيين يُمالئون ذلك البلد لتحقيق مآرب سياسية ومصالح خاصّة لهم....
وهو إذْ يتجاوزُ إهانةً لحقت بشخصه، لكبرِ نفسه، فلا يغتفرها لأنها تُصيبُ منْ هو في أعلى مقامٍ ديني للطائفة المارونيّة ولا تجوزُ إهانة الراعي وتهديد وحدة القطيع...
الكاردينال البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، وقد آلمته هجرةُ رعيلٍ كبيرٍ من أبناء الطائفة المارونيّة والمسيحيين واللبنانيين، حملَ عصا البطريركية وغفّارة الكرسيّ وتاجَ الراعي، وتجاوز الحواجز . إلى أصقاع الكرة الأرضية حيثُ يهبَّ القطيعُ بلهفةٍ ليستمع إلى صوتِ راعيه ويستقبله ويتبرّك منه ويُصغي إلى طمأنتِه لهم، معزّزًا الشعور القومي والروابط الدينية، داعيًا إياهم بألاّ يتناسوا الوطن الأم ويزوروا لبنان باستمرار، بل سعى أكثر، في الدعوة إلى تسجيل من يولد خارج لبنان، في القنصليات اللبنانية المنتشرة في بلدان الاغتراب، وطلب بإفساح المجال أمام المغتربين لتنفيذ حقوقهم على صعيد المشاركة في الإنتخابات النيابية...وفي عهده عزّز أبرشيات المغتربات وعيّن مطارنة عليها يحققون الارتباط القومي بين المغتربين والمقيمين، بين المغتربات والوطن لبنان... فكانَ رائدًا في تعزيز الروابط بين الكرسيّ البطريركي وأبناء الطائفة ما وراء الحدود، لا بل بينهم وبين وطنهم الأمّ، بحيثُ بات هذا النوع من التواصل من صلب اهتمامات البطريركية.

زرتُه مطلع الألفية الثالثة، وكان ترحابهُ كمن لو غادرته صباح اليوم الأسبق، تفرّس في وجهي لأذكّره بقريتي والكهنة، ويُطلق علامة ترحابه أو تعجبه المعهودة هووووووووهوو رافعًا يده مع ابتسامة محبّبة...  وتكرّرت الزيارات مواعيد أو من دونها، وفيها يَذكُر بأنّه يقرأ لي ما أكتبه عن اقتصاد الوطن الصغير في جريدة النهار، فيستفسر في الوقائع ويسأل عن سبل العلاج، ولاحقًا باتَ يتابع تعليقاتي الاقتصادية في جريدتي النهار والحياة... ونتحدث في الواقع الاقتصادي... وكنتُ في الوقتِ ذاتِه أتابع مواعظه الأسبوعية، كما معظم المواطنين، وباتتْ موقفًا صارخًا في أوضاع الوطن واختلالات الحكم واستشراء الفساد والخروج عمّا يُفيد المواطنين ويؤمّن حقوقهم...
كنتُ أحيانًا أتجرّأ وأسأله عن "موقفٍ سياسيٍّ" له، لا يُعجبُ فريقًا... فيبتسم. لا يمكن إرضاء الجميع، يُجيب... ويُصغي إلى ما أحملُ من استفسارات... وعندما أقدّمُ له كتابًا من مؤلفاتي، يُسرُّ ... وينشرح... وباركَ لي كتاب"الاقتصاد في الإنجيل"...
سعى الكاردينال صفير إلى إنشاء مؤسسات للطائفة، وإلى الاهتمام بما يُخفّف عن أبنائها أعباء الحياة ويُسهّل لهم السكن والطبابة، كما لمْ يتوانَ عن تعزيز الروح الليتورجية وتطويرها... فكانت الإنجازاتُ تتلاحق ... ولا يُمكنُ إغفال المجمع البطريركي الماروني وغيرها وغيرها، ما جعل مدّة حبريته حافلة... ولعلَّ ما يُميّزها أنّ أبواب بكركي كانت مفتوحةً للجميع بلا استثناء، وحتى من دون تحديد مواعيد... وأنّ سيّدها كان يُنبّه إلى الأخطار المحدقة بلبنان واللبنانيين فيحذّر ويُنذر، ويقف إلى جانب تحقيق المطالب المعيشية، ويُبدي رأيًا في السياسة وغيرها...

وخلال حفل إطلاق كتاب "البطريرك مار نصر الله بطرس صفير أضواء منه وعليه" – في كنيسة الصرح البطريركي في الثاني من آذار 2012، قال فيه خليفتُه  الكاردينال البطريرك مار بشاره بطرس الراعي:" وأنا كبطريرك بنعمة الروح وبمحبتك وبمحبة المطارنة، أفاخر بفخر كبير جدًا وبإسم الكنيسة أنه لدينا بطريرك وكاردينال إسمه نصر الله بطرس صفير، نفاخر بهذه الذخيرة الموجودة في بكركي، وليس عن عبث قولي انك البطريرك الدائم، لأن كل شيء هنا هو البطريرك صفير، كل قوتنا وطريقنا وفرحنا وعزانا هو شخصيته ووجوده، وأنتم لا تعلمون كم ان وجوده بالنسبة إلينا هو القوة والضمانة، نحن نشعر بها، ونحن نعرف أن هذه نعمة كبيرة جدًا أن يكون حاضرًا معنا كل يوم بصمته وصلاته وتواضعه ولا يزال يعطي ويعطي ويعطي. ولكن ربنا لوحده هو الذي يحصي أمام العطاء".

قبل استقالته من مهمّاته، أبديتُ له خشيتي من إنقساماتٍ محتملة، قدْ تنعكس على أجواء الطائفة، فابتسم وطمأن، :"لا تخشَ، كلُّ شيءٍ يسيرُ على ما يُرام، وسيكون للطائفة بطريركٌ يُتابعُ المسيرة"...
وفي زياراتي له بعد الاستقالة، شكرتُه لكونه سعى إلى تأسيس "الصندوق التعاضدي الاجتماعي الصحي"...فضحك وأجاب:"عال منيح عملنا شي منيح"... قلتُ له:"البعض يحكمُ على مواقف مستقلّة، ولا يدرسها من ضمن ظاهرة متكاملة، فيقع في سوء الحكم"...

الكاردينال البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، يبقى ظاهرة متكاملة، رسم أسسًا وطنيّة ودينيّة واجتماعية، من الصعب أن تُغفل من سياق التاريخ... مواقفُه لا تُفهمُ بالإجتزاء، هو الكامل والمتكامل..



ميشال مرقص                                   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق